ان ما تبحث عنه وتريده بشدة، قريب…” تذكرت تلك الكلمات من كتابي الأول وأنا أطالع صالة السفر من خلف زجاج المقهي الذى جلست أحتسي به القهوة فى أنتظار ميعاد الطائرة. طالعت حقيبة سفري الوحيدة وقلبت جواز السفرفى يدي وأطالت النظر نحو كل شئ ونحو اللاشئ وغرقت فى أفكاري، ودون أن أدري عادت تلك الكلمات ترن فى أذني وكأنها تأتي من قرار بعيد فى نفسي يهزني صداه.
هل الحياة أختيار أم قدر؟ راودني هذا السؤال طيلة الطريق إلى المطار وأخذت أفكر فى حياة قادمة تكمن هناك خلف الضباب البارد لمدن الشمال. سرحت متخيلا نفسي أسير تحت المطر فى ليل طويل على النفس. تخيلت نفسى أعبر الطرقات وأطالع لافتات الحانات وأحمل كل يوم فى يدي كتاب أو أثنين وعلبة سجائر وكوب قهوة داكنة وثقيلة المذاق. فكرت فى كل هؤلاء الغرباء اللذين سيصادفونني وسيغيرون حياتي وأحداثها. يظل يحدق في السؤال وأحدق فيه، هل الحياة أختيار أم قدر؟ ما الذى يسيطر علينا وما هو الخارج عن أرادتنا؟
أقف على عتبة أبواب كثيرة كلها غريبة ومبهمة وأنا جالس على كرسي وحيد فى صالة المسافرين. هل جواز السفر وتأشيرة الدخول لعوالم أخرى هو قدري أم أختياري الجديد؟ أن كان قدري حقا فماذا أن تركت ذلك المقعد وقصدت باب الخروج وركبت التاكسي وعدت إلى منزلي؟ وأن كان أختياري فلماذا أختارته؟
أحتسيت جرعة كبيرة من القهوة وقررت أن أواجه نفسي بشجاعة قبل أن أخوض فى الطريق راحلا. الحياة أختيار وليست قدر هكذا قلت لنفسي وقررت أن أثبت هذا فقمت من مقعدي وقررت أن أتوجه إلى بوابة الخروج وعندها أدركت أنني كنت أخدع نفسي فها أنا قادر على أن أعود ولا أسافر والدليل ها هو، بضع خطوات وأخرج لأبحث عن تاكسي وأعود إلى شوارع المدينة المزدحمة التى تركتها منذ ساعة وأنا أودعها بنظراتي وأحاسيسي.
توقفت وأعدت ترتيب الأحداث التى مرت علي خلال الشهور الماضية. ما الحياة؟ وما الحزن؟ وما الحب؟ وما الألم؟
أنها كلها أشياء بداخلنا، كلها بداخلنا قد ننتصر عليها وقد تهزمنا. الأختيار هو فقط أي معركة ستخوض وأى معركة ستستلم فيها. فعل الحياة كلها يكمن فى داخلنا ونحن تائهون نبحث فى ما حولنا. أنا من أكون؟ هذا هو الأختيار الحقيقي والقائم طيلة حياتك. أنا بقايا حطام تقوده أمواج البحر الهادرة؟ أم أنا بحار متشبث بالشراع مهما أشتد عليه الأعصار؟
نحن نختار حتى عندما نقرر أن لا نختار، هذا فى حد ذاته أختيار. حتى الأستسلام أختيار وليس قدر.
تبني حياتك فى داخلك ليتشكل ما حولك وتخوض معركة تلو الأخرى وتواجه مرارة الأزمات، وتبقى أنت من يقرر هل يصمد أم ينكسر ويفقد ما بناه داخله؟ الأمل أختيار، والحلم أختيار، وكل ما نبنيه داخلنا يوجهنا كالدفة. وكم هو صعب ذلك الطريق الذى تبحث عنه فى أعصار ذاتك.
تحطمك الأحباطات وتمزقك الأحلام الضائعة من بين يديك وتطارد نفسك حتى تمسك بها فتعود تنكرك وتتخفى منك وتخدعك فى رحلة لا تنتهي. تحاول أن تبنيها ثانية وترص الأشياء التى تهدمها الناس من حولك والأحداث. كل مرة تحاول أكثر وتعاني أكثر وتتملكك الحيرة وتتوه فى دروب نفسك البعيدة ولكنك مازلت تزرع جذور الأمل لتنبت زهر الربيع عندما تحن عليك الفصول بشمس جديدة وينقشع الضباب.
حياتك كلها تكمن داخلك، يأسك وأملك، حزنك وفرحك، ما تسيطر عليه وما تفقده كله يكمن فيك. أنت من يخدعك وأنت من يدلك. أنت الكافر وأنت المؤمن. الرحلة ليست فى الدروب ولا في رأى الأخرين ولا فى قهر الظروف. رحلتك تكمن فيك وتسير فيها مع نفسك. تفقد ما تفقده وتستعيد ما تستعيده وفى النهاية هي كلها رحلتك مع نفسك. لو خسرت نفسك فماذا سيتبقى لك ذات يوم؟ ولو جمعتها وضمدتها ستعود تنبت.
كم ظللنا نلوم الأشياء ونلوم الأحداث ونرى فى كل مأزق وفى كل جرح نهاية؟ ما النهاية؟ لا شئ ينتهي فيك بل كل شئ يمتد معك طيلة عمرك.
أعلم أن طريق العودة صعب ومؤلم وحزين، أعلم أن الوطن ملبد بالغيم الثقيل، أعلم أن القلب منكسر وأعلم أني غريب وأني وحيد وأن الطريق ممتد طويل وأن الوقت جاف عنيد يريد أن يمحي وأنا أريد أن أستعيد.
أعلم أن حياتي تحاول أن تمنحني دور الضحية ودور الشهيد. أعلم أنني ألوم أشياء كثيرة على ما فقدته وأني أحاول أن أخرج كفي من أزمتي نظيفة وأمارس مع نفسي دور ما باليد حيلة. أعلم أن أختيارتي التى بنيتها تعارضت مع أختيارات أخرين لم يمنحوني الإيمان بي. أعلم أن الأمل صعب والحياة تتأمر عليك لتمنعك من الوصول لذاتك. تضللك وتخذلك وتعاندك وتزرع الشوك فى كل وردة تسقيها.
ولكن يبقى الأختيار هو حليفك أن خذلته خذلك وأن تشبثت به ستجده يصنع معك الفارق. الشجعان يموتون شجعان خلف طريق رسموهم بالأمل والجبناء يلومون القدر الذى فرضوه على أنفسهم.
أنت تصنع نفسك التى تعيش معها وتسير فى ركابها وأنت من يسأل نفسه وأنت الذى يبحث عن الأجابة. أصنع أجاباتك من صلب إيمانك ولا تصنعها من وهم أحزانك فأنت وحدك من سينتهي مع حاله عندما يهدأ الطوفان وعندما تلمع الأضواء قرب النهايات وعندما ستذهب إلى أخر عمرك وتستعيد ذكرياتك وتبحث عن معنى حياتك وستكون أنت السبب وأنت النتيجة.
ما تستحقه هو ما تمنحه لذاتك وما لا تستحقة هو ما تخليته عنه. أخلاصك سيبقى حليفك وضعفك سيبقى مأساتك. حلمك تبنيه لنفسك وقوتك هى أن تنتصر لذاتك. حظك هو أستسلامك لفشل محاولة أو المواصلة. أنت تصنع ما يقودك إلى أجاباتك وإلى الحقيقة الموجودة فيك. الرحلة كلها فى داخلك أنت وليست فى معالم الطريق والأشارات التى حولك. أنت الذى يقرأها بعين قوة أو ضعف إيمانك.
الطريق صعب والمسافات طويلة وأنت من يختار الدرب وأنت من يفوز بحقيقته وأنت من يتركها خلفه.
التاكسي يمضى بى عائدا وأنا قررت أن لا أفقد الأمل وأن أربيه فى داخلي وأنتظر.
ياسر أحمد