رواية مجنون دبي
الكاتب ياسر أحمد
يحدث أحيانًا أن تصادف أشياء في ذاكرتك لا تمر، أشياء تتراص كأنها أشجار صامتة في مستنقع غائم يسكنه الضباب. لا ريح تمر ولا طائر يزور ولا غرباء يأتون، أنت وحدك ولا أحد سواك، تطل عليك الآن كل الأشياء التي أخفيتها حتى عن نفسك، ها هي تراودك الآن، تواجهك، تكاشفك وتعزلك عن نفسك، حتى وأنت حاضر بكل ما فيك.
كيف مضيت هكذا في عالم ساتومي؟ لقد دخلت الغابة اليابانية ذات يوم وخرجت من الناحية الأخرى مسكونًا بالأساطير. لقد وضعتني ساتومي في قلب الطوفان الذي أرادته. أشارت إلى هناك وقالت هذا هو مكانك. ساتومي من البداية شخصت حالتي وأيقنت أني مجنون، أما كاميليا فتحاول الآن أن تشفيني. لقد سلمتني إلى حقيقتي ووضعتني أمام النهاية، وجهًا لوجه.
لم أندم على شيء، الموت على يد كاميليا شيء جميل. لم يتبق من المهلة سوى ساعات قليلة، هنا وقبل سنوات وفي هذا المبنى، وقعت الأوراق أنا والدكتور بلا اكتراث، هنا نصب لنا الشريكان الفخ، هنا بدأت علاقتي بمجنون دبي الذي يحكون عنه، من هنا بدأت رحلتي في العالم الخفي، العالم الكبير للأموال العابرة للمحيطات، للمليارات التي تتحول إلى سراب، والسراب الذي يتحول إلى حقائق يستحيل تغييرها.
***************
فصل من الرواية
عند سقف العالم
ما الذي يأخذك للبعيد؟ كل هذه المسافة قطعتها عبر الجبال وحدك وتركتني لأتبعك. أحكم الكمامة على فمي وأنفي وأحاول ألا أواجه الرياح القاسية. أضرب بعصا السير في الطريق الصاعد لأعلى ولا أكاد أستبين شيئًا وسط الضباب. أنا على ارتفاع ثلاثة آلاف متر، أنبأتنى اليافطة التي مررت عليها قبل قليل. كيف قطع العجوز تلك المسافة كلها وحده؟ كيف يملك تلك الإرادة داخله التي يمضي بها في كل جنبات هذا العالم الكبير؟
أتبع إشارة الجي بي إس التي تحدد موقعه. أرسلها لي منذ خمسة أيام عندما حطت قدماي في مدينة كاثماندو. عليَّ أن ألاحق الفيلسوف عبر مسار طويل في الجبال. قدماي تكادان تنهاران وجسدي يحاول أن يتماسك في مواجهة برد الجبال القاسي وصدري يتعبني من آثار التدخين ونقص الأكسجين على المرتفعات. عليَّ أن أجد العجوز وليس أمامي سوى أن أتبع الطريق الطويل أينما مضى بي.
يضيق المسار وأصل إلى حافة الجبل المهيب. وسط الضباب الكثيف يظهر لي شبح يلوح، شبح يقف على حافة العالم كأنه آخر شخص. والعالم من ورائه قد يتهاوى في أي لحظة وبلا رجعة.
يشعل حطبًا ويسخن قهوة في كوب من الصفيح بينما كنت أضرب خيمتي إلى جوار خيمته. يناولني القهوة وأعطيه تبغ غليونه المفضل الذي طلبه مني. تبغ لا يصنع إلا في مدينة نائية بجواتيمالا. يدخن العجوز على مهل ويقول:
“لقد أتيت”.
“كيف قطعت كل تلك المسافة وحدك؟”.
“ما هي المسافة؟ كيف تحدد مسافة ما بين الأشياء؟”.
“بداية ونهاية؟”.
“البداية قد تكون نهاية رحلة سابقة والنهاية قد تكون بداية أخرى.. على هذا الجبل القمة ليست نهاية.. القمة هنا هي بداية المعرفة.. بداية الحكمة”.
يقف أمام الريح بلا ساتر أو غطاء يقيه البرد. يسقط الليل علينا وتنقشع الغيوم وتقترب النجوم أكثر. هنا في أعلى الجبل تبدو النجوم قريبة أكثر من أي وقت مضى، ويبدو مايو بعيدًا وهو على بعد خطوتين مني. يواصل حديثه وهو ينفث دخان الغليون على مهل:
“المسافات تكمن في كيف تقيس الناسُ الأشياء. في القرية الكامنة عند حافة الغابة، قطف الثمرة يحتاج خطوات قليلة ولكن في المدينة الكبرى عصير تلك الثمرة يأخذ رحلة طويلة تحتاج إلى شحن جوي، جمارك، كوب كريستال فاخر، ضريبة خدمة وفندق ذي إطلالة مميزة.. نفس الشيء ونفس المذاق يحسب بحسابات مختلفة ويقطع مسافات مختلفة. في المدينة العظمى تتفاقم المسافات ويضاف كل ما ليس له معنى.. سيضيفون لك في النهاية شعار عصير طبيعي ليقنعوك بأنك تحصل على الأفضل.. الرأسمالية لن تكتفي بهذا فقط ولكن ستحتل الغابة وتحولها إلى مزارع وتهجن الأشجار لتنتج أكثر وتبيعك منتجًا كتبوا عليه شعار أورجانك وطبيعي وديتوكسك. هذا هو المشروب الطبيعي في ثوبه الجديد.. الآن دعنا نحسبها.. لقد تم تحويل المسافة ذات الخطوتين وتحولت إلى فكرة مختلفة ومنظومة من مسافات طويلة ومعقدة.
كل ما يحتاجه الإنسان يصير في العصر الحديث أبعد من متناول يديه. لقد تم خلق مسافات طويلة لتحصل عليه عبر سلاسل من الوسطاء. هؤلاء الوسطاء هم الرأسمالية الجديدة.
الآن دعني أسألك مجددًا، ما هي المسافة التي تريد أن تقيسها؟ انظر حولك وفكر.. ما خلقه العالم من حولك من مسافات.. كله مزيف”.
يعيد ملء غليونه ويصمت طويلًا متأملًا النار قبل أن يعاود:
“المسافة الحقيقية الوحيدة هي المسافة بينك وبين نفسك… كلما دنوت من نفسك تقدمت”.
يقول لي مايو الأشياء التي تؤرجحني على حافة الهاوية. على أطراف سقف العالم وعلى جبال التبت يقول مايو لي مجددًا إني تائه.
عدت إلى كاثماندو وتركت مايو في الجبال، تركت مايو خلفي ولكنه لم يتركني أبدًا، كلماته ظلت تترد في رأسي.
“المسافة الحقيقية الوحيدة هي المسافة بينك وبين نفسك”. ولكني كلما كنت أقترب كان جنوني يزيد.