February 21, 2018 Yasser Ahmad 0Comment

يطل العجوز في وجهي مليا ويقول

“ياااااه.. أنت؟”

نعم، هو أنا. غاب العجوز لسنوات لم نتصادف فيها ولو لمرة ثم عاد ذات مساء ليتطلع إلى. طلب فنجانه وشبك أصابعه وأبتسم إبتسامة طويلة قبل أن يبدأ في إستداركي لحكايته. على وقع غناء أم كلثوم يحكي ويسأل عن رفاقه الذي لم يتبقى منهم سوى قلائل. يسرد الأسماء على وكأنه يختبرني فيقوم إسماعيل عامل المقهى بتولى المهمة والرد بالتفصيل. ومن ذا الذي يعرف بشر المكان أكثر من إسماعيل الهن؟ يقولون أنه إلتحق بالمكان في العام 1964، أي منذ ما يقارب الخمسين سنة. تقول الأسطورة بأنك أن قلبت أي حجر مدفون في شارع سليمان باشا لوجدت تحته علامة تركها إسماعيل الهن.

أسماعيل المشهور بلقب “المومياء” نظرا لضألة جسمه وجحوظ عينيه من خلف نظارة سميكة، سأحكي قصته لاحقا وبالتفصيل لما فيها من عجائب وحكايات عن المقهى وناسه، ولكن دعنا نعود للعجوز الجالس أمامي الأن. سأقول لك بأني قبل هذا اللقاء الغامض في خريف سنة 2009، عرفته جيدا ولكني لم أعرفه قط. لم أكن وحدي ولكن الجميع هنا كانوا مصابون بنفس الحيرة.

يرتشف قهوته على مهل ولا ينسى أن يذكرني بأني أصغر رواد المكان عبر كل تلك السنوات. وراء أسئلته هناك يكمن دوما تعجب من شخصي وعلامات أستفهام لم يشفى هو منها ولا أي من العجائز. دائما ما يتحيرون من سبب ظهوري في المكان وإندماجي في زمرة العجائز. لم يكن الأمر يحيرني بصفة شخصية ولا يشكل هاجس لي. لقد إعدته مع الأيام وتعايشت مع غرابته حتى صار أمر إعتيادي لي.  العجائز أنفسهم كانوا منذ سنوات بعيدة يتعاملون مع الأمر كأنه حادث قد حدث وصار ماضيا ووجودي بينهم صار أمر مسلما به بل ومفضل عندهم. أصدقائي من أيام الطفولة والدراسة أيضا أعتادوا تلك القصة وتقبلوا مفارقة أن لي أصدقاء أخرين وجميعهم من العجائز.

الدكتور سامر عدنان كان قد تجاوز الخامسة والسبعين ولكنه مازل يتمتع بصحة جيدة وهيئة مرتبة. عاد إلى مقهي بعد أن قضى خمسة سنوات لدى ابنته في كندا. يتطلع نحوي وكأنه جائع للحكايات. أول شئ أثار أنتباهي هو تصالحه المفاجئ معي بعد أن ظل لسنوات يرمقني بتعجب وتعالي. كيف قرر أن يتغير وينفتح في الحديث معي؟ بدا الأمر يتضح عندما سألني بشكل مباغت عن مؤلفاتي، ساعتها عرفت أنه وجد في شئ يثير حماسه وفضوله. من الذي أخبره؟ لا يهم فالعجائز هنا لا يكفون عن النميمة وتقصي الأنباء، أنها لعبتهم المفضلة مع الزمن البطئ في مقهي الإسبريسو.

في عشر سنوات لم يتبادل معي الدكتور سامر أي أحاديث، علاقتنا كانت تبدأ وتنتهي بتحية مقتضبة تأتي من خلف جريدة بالفرنسية بقرأها خلال جلسته بالمقهى. بالرغم من ملامحه السينمائية التي تتشابه إلى حد بعيد مع شكري سرحان في أواخر أيامه من شعر كثيف وناعم ووجه ذو كاريزما، إلا أن ما كان يثير فضولي تجاه الدكتور سامر كان ملحقاته التي يستخدمها من حينا إلى أخر. يخرج من الصديري علبة فضية صغيرة بها حبوب دواء، ومن الجيب الأخر أمبول صغير يضعه في قهوته، ثم يخرج بايب عتيق يلقمه على مهل مستخدما أدوات تشبه أدوات تاجر أنتيكات هولندي يجوب البحار. أستبدل البايب بنوع غريب من السجائر لم أراها إلا خلال زيارتي لليابان. لقد كانت سجائر في علبة برتقالية تحمل صورة هندي أحمر. يخرج سيجارة كل نصف ساعة بالتمام والكمال ويضعها في مبسم قصير جدا يخرجه من علبة خشبية تكمن في جيب الجاكت العلوي.

لو كانت جيوبه تتكلم لحكت حكايات عما بها من أشياء غريبة. ذات يوما دفعني فضولي لأتأمل سلسة مفاتيحه ولم أستطيع قط حل لوغارتيماتها. هذا الرجل كان يحمل مفاتيح أحجيه وصناديق كنوز القراصنة. كل مفتاح أغرب من الأخر وكلها ذات رؤوس مختلفة الشكل والحجم. بمنتهى الدهشة ظللت أسأل العجائز الواحد تلو الأخر إن كان الدكتور سامر هذا تاجر أنتيكات ولكن الردود الضاحكة كانت تنفي الأمر. الدكتور سامر عدنان أستشاري أمراض قلب مشهور ويملك عيادة في وسط البلد ولا يعرف عنه أكثر من هذا. هو بطبعه يمتلك تحفظ شديد ولا يتمتع بعلاقات قوية بالشلة المسائية في المقهى. قد يدلي أحيانا برأي سياسي في أحد الأحاديث ولكنه لا ينخرط أكثر من هذا.

في هذا المساء يحكي لي الدكتور سامر ولأول مرة يكشف عن نفسه لأجد نفسي أفكر في المقولة التي تقول “أفضل الأماكن للأختفاء من الأشباح هو منزل الأشباح”.

“هل تعلم بأني أكتب أيضا؟” يقول الدكتور سامر ويحكي لي عن القصص التي ظل يكتبها بالفرنسية لمدة خمسة وعشرون عاما. الدكتور الذي تخرج من مدرسة الفرير ليلتحق بكلية الطب في باريس في أوائل الستينيات ويحصل بعده على الماجستير والدكتوراة، كان عليه العودة إلى القاهرة في أواخر السبعينات ليرث عيادة والده الذي كان طبيبا كبيرا. يهمس وكأنه يخبرني بسر لا يجب أن يعمله أحد

“ظللت أكتب قصص قصيرة بالفرنسية سرا دون علم أحد لخمسة وعشرون عاما. كانت تنشرها لي مجلة فرنسية أدبية تحت أسم مستعار ولم يعلم أحد إلى الأن بهذا الأمر.. أنا أنحدر من عائلة كلها أطباء مرموقين ويعتبرون الأدب والفن شيئا لا يليق بالعائلة”

أحاول أن تبدو أبتسامتي وقورة ولكني فاشل تماما في التمثيل، تعبيراتي بدأت تقلقه بشكل ما فقرر أن يصمت لبعض الوقت. أنهى فنجان القهوة وهم بالمغادرة ولكنه لسبب توقف وسألني أن أقبل دعوته لتناول الشاي في منزله في أي وقت أحدده. وافقت على الفور ودون تردد ولو لحظة، فأيا كانت أسباب دعوته الغريبة والمفاجأة فلا تهم الأن. أنا أمام فرصة أكتشاف رجل رأيته كلغز لسنوات طويلة.

***

عندما ينفتح باب الشقة التي تقع بالطابق السابع المطل على نهر النيل بالزمالك، ستجد نفسك في شقة كبيرة ذات أثاث أرستقرطي قديم لا يوجد به أي شئ مثير للأنتباه بعكس ما توقعت. يرحب بي بشدة ويربض على كفي بأحترام ثم يقودني إلى غرفة مكتبه. ما أن دلفت غرفة المكتب حتى تغير كل شئ أمامي. أقف كالمشدوه وسط أرفف تحوي كتبا لا تنتهي. كتبا عن التاريخ والفسلفة ومؤلفات لكبار الروائيين وصحف قديمة وفجاءة تتوقف عيوني أمام دولاب يحتوي على الكنز. أقترب وأطل داخله مطالعا عشرات من العلب الصغيرة الفضية والخشيبة القديمة التي تعلوها نقشات غريبة. الدولاب يحتوى على أرفف مكسوة بالقطيفة الزرقاء الداكنة وكل رف مخصص لمجموعات ما مختلفة من الساعات القديمة وأزرار قمصان والولاعات والأقلام والعديد من المقتنيات الغريبة التي لم أفهم ماهيتها. أغرب الأشياء في هذا الدولاب الكبير كانت العلب الصغيرة المصنوعة من الفضة والخشب والنحاس وأحيانا السيراميك.

“هذه مجموعتي الخاصة .. كلها أثرية ونادرة” يفتح الدولاب ويضع علبة صغيرة في يدي ويواصل

“علبة تبغ صنعت من الفضة في الأرجنتين منذ حوالي قرنين وكان يملكها تاجر أسباني.. أسمه محفور على العلبة”

“كيف جمعت كل هذه المجموعة؟ هل كنت تبتاعها من المزادات؟”

“أنا لا أفهم في الأنتيكات.. تلك المجموعة ورثتها من سيلين”

لم أفهم وأصابتني حيرة شديدة فالأمر بدا معقدا وصعب فك طلاسمه. عن أي فتاة يتحدث؟ يحكي الدكتور عن فتاة أحبها خلال دراسته في فرنسا وكانت تهوى تلك الأنواع من الأنتيكات. كانت متزوجة من رجل أخر وتحولت قصتهم لعلاقة مأساوية ثم فرقتهم دروب الحياة ولكن ظل هناك خيط رفيع يجمعهما، كان يكتب لها قصص حب بالفرنسية على مدار السنوات ثم عندما ماتت أرسل له محاميها صندوق كبير يحتوى مقتنايتها. من ساعاتها وهو يحمل في جيوبه كل يوم شئ من تلك المقتنيات حتى يتذكرها.

ناولني قدح من القهوة ثم قال وهو سارحا

“لقد قرأت روايتك الأولى وأنا في كندا.. لدي سؤال لك.. لماذا قررت أن تصبح كاتبا؟”

“لا أعلم فهذا السؤال لم أجد له أجابة.. أعتقد أن أفضل أوقاتي في الحياة هي تلك التي أقضيها وأنا أكتب”

أبتسم أبتسامة طويلة وظل صامت لبعض الوقت يتطلع نحو كتبه ثم أخيرا قال

“لقد قضيت حياتي أعمل في مهنة الطب وأربي أبنائي ولكن كان هناك دوما شيئا مفقودا منذ أن أنتهت علاقتي بسيلين.. كان هناك شخصا أخر داخلي مفقود ولا أستطيع أن أقابله وأجلس معه إلا عندما أكتب.. هذا الشخص كلن يتحدث لغة أخرى غيري ويحب أشياء مختلفة.. كان يتحدث الفرنسية ولاينطق كلمة بالعربية وكان يكره الطب ولم يكن يعرف أسماء أبنائي.. عندما كنت أقابله وأنا أكتب كان يحكي لي كل الأشياء التي لم أفهمها عن نفسي”

على مدار ثلاث سنوات تلت كنت أقبل الدكتور سامر عدنان في المقهي بسكل متقطع ولكن نظرتي له كانت قد تغيرت بشكل جذري. عندما مات كان يأتيني أحيانا في الحلم ولكنه كان يتحدث لي بالفرنسية ولم يقل شيئا بالعربية مطلقا.

من حكايات مقهي الإسبريسو.

ياسر أحمد