February 23, 2020 Yasser Ahmad 0Comment

المدينة التي أسير فيها لا تعرف الوسطاء. الكل يمضي نحو وجهته الغير معلومة ولا أحد يعرف لنفسه حال. الوجوه منتفخة والجميع يترقب في الطرقات وكأن النهاية معروفة مسبقا. لا توجد في المدينة تشبيهات ولا أوصاف. أنها خالية تماما من كل الأفكار الممكنة ولم يتبق فيها سوى أشكال وألوان من الأوهام.

لا يعرف أحد متى بدأ الأمر ولكن من المرجح أن الوباء أنتشر منذ وقت طويل ولم ينجو منه أحد. أستطيع أنا أسمع أنفاسهم وهم يمرون بمحاذاتي، عيونهم زائغة وأحاديثهم تتناثر بعشوائية وليس لها من معنى. أحاول تفادي التعثر بهم في منتصف الطريق. منهم من يتخشب مكانه وتصيبه نوبة فقدان للحركة ومنهم من يهرول في كل اتجاه، وكأن جسده أنفك منه وفقد السيطرة عليه.

من الصعب وصف احساسك وأنت تزور المدينة بعد سنوات من انتشار الوباء. احساسك بالزمن والمكان شبه مفقود. لا شيء تألفه أو تستطيع تخيل أسباب حدوثه. كل شيء مفاجئ وفاجع ولا تستطيع إيقافه. السيارات المسرعة اصطادت ثلاثة من العابرين في لحظة خاطفة. قبل أن تلف رأسك سترى أحدهم يسقط من فوق البرج. يحلق ثم يرتطم بقوة. الفزع سيطيح بك من على الأرض.

كل من يمر بك ليس سوى شخص أخر على حافة الصراع الرهيب الذي يفتك بالجميع. أنت لست متوهما ولا فاقد للإحساس. أنت عابر في المدينة ولم تكن تعرف ما حدث في السنوات التي غبت فيها. قلبك يدق بعنف وأعصابك تكاد تنزلق في أطرافها. محاولاتك لفهم ما يدور تتوقف أمام صدمات من مشاهدات متوالية لا تدع لك فرصة لجمع شتاتك. لن تقوى على العدو وسط الوباء ولن تقوى على المغادرة. يصرخ الشخص العابر من خلفك ويمسك بك. يريد النجاة وأنت تحاول المرور قدما. لا أحد ينقذه ولا أحد يدعك تفلت من المدينة. لقد أطبقت عليك بجناحيها وتتلاعب بك كدمية أخيرة. أنت الأخير العاقل الذي لم يتجرع الوباء. حاول أن تتشبث بذاتك حتى أخر لحظة. تحمل وطأة الأحداث ومهما حدث لا تحاول أبدا تفادى الحقيقة.

أنت تعرف الحقيقة جيدا. حدق في الأشباح التي تمر وتذكر أن الحقيقة كانت موجودة دون أن يراها أحد. كانت كاملة دون نقصان.

أنت تعرف أن كل هؤلاء ليسوا زومبي وليسوا مصابين بفيروس قاتل. هذا لم يكن وباء، ولا طوفان، ولا لعنة حلت بالمدينة. أنت تعلم حقيقة كل تلك الإصابات. هؤلاء ضحايا الأمراض النفسية التي استوطنت في المدينة وتأصلت فيها قبل سنوات. عندما بدأت المعاناة، الكل ظن أنها أحداث عارضة أصابت البعض. على الطريق تساقط الجميع تباعا ودون أن ينجو أحد. كل المدينة صارت مجنونة.

تمر بين عرايا يعدون أمام مرايا، يعدون في أماكنهم ويصرخون من ترهلات موجودة وغير موجودة. يقبل بعضهم المرايا، ويبصق بعضهم ويتذمرون من الضجر. يظن أحدهم أنك مدربه ويسألك عن حبات الحمية السحرية. يعدو خلفك ويكاد يفتك بك. تخادعه وتقول إنك ستأتي بالحبات، ولكنك تجمع أحجار من الطريق وتقذف بها المرايا. تهرول وحدك وتصرخ دون صوت حتى تصطدم بمكعبات الأسمنت. تنبطح أرضا وتنزف من رأسك. ها أنت قد وصلت لأحراش الخرسانة المقيتة. هنا أكل الأسمنت الحياة وبعدها لم يجد البشر غيره ليقتاتوا عليه. وسط البلوكات المتطابقة، يضربون المطارق ويتلقفون الكتل ثم يشرعون في أكلها. يصرخ أحدهم من طابق علوي حتى يتوقفوا عن أكل تحويشة عمره، ولكن أولاده كانوا يأكلون حوائط الطابق الذي يعلوه. اللعنة، أنهم يأكلون الأسمنت. ترتعد أوصالك ويجف حلقك، وكأن أحدهم قد صب به الخرسانة. كل شيء مستحيل، كانوا يفعلونه وعندما صرخت لم يسمعوك. تخطفك الدائرة المغلقة وتجوب في السكة المؤصدة.

تمضي من طريق لأخر، ومن نفق لمركز تسوق. يصطف الباعة ويفتح المزاد. لا أحد يشتري والمزاد يرتفع. من يزايد على من؟ يعلو السعر أضعاف والباعة يتخاطفون بضاعتهم. كلا يشتري من نفسه بأعلى سعر. يجن جنونهم وينبحون بصوت قطيع من الكلاب. ينبحون في أروقة المكان والأسعار أصبحت سعار. ينقلب المكان في غمضة عين وينطلقوا خلف بعض. من يلحق بالأخر يعضه، يمزقه أربا. لو أمسكوا بك لن يفلتوك. هشم الزجاج المزدوج للمخرج وأهرب.

أعدو وسلم ساقيك للريح وللمدينة. كل الطرقات معابر للطوفان. ينفتح ثقب في الجحيم وتخرج منه أسراب طائشة تدوس من يمر وتفرم أجسادهم. أنه سباق لاصطياد اللحم الطازج. فيما تفكر الأن؟ السيارات تهرول نحو المارة والمارة تهرول نحو السيارات ويلتحم الجميع. أينما ألتفت سترى الصدمة وسيصم أذنيك صوت الارتطام. تماسك جيدا وتشبث.

لا يوجد لك مخرج سوى عند الخارجين. يصطفون هناك في طابور طويل يمتد حتى أخر المدى. حملوا أشلائهم ووقفوا يصيحون كالمعاتيه. يطالبون بالهجرة ليل نهار في موجات هتاف وعويل تشبه عواء الذئب في الفخ. متناثرين تحت صدأ الأسقف التي أقاموها على قارعة الطرقات. يواصلون العويل ولم يغادر منهم أحد ولم يعود منهم أحد. يقفون في وسط الوهم ثم يشرعون في صنع أبراج بشرية. يعتلون فوق أكتاف بعضهم البعض محاولين الوصول لأعلى نقطة. حتى أنت ستقع تحت أقدامهم وسيدهسونك في رحلة الصعود نحو الأعلى. تسمع أحدهم من أعلى الكومة البشرية التي فوقك يقولك إنه رأى الأمل وعليه أن يقلع الأن من صالة المغادرة. يعلو العويل من أسفل لأعلى يسألون عن التأشيرات ثم يتبعها موجة صرع جماعي تودي بالتلة البشرية. أنت تحت كومة من الصرعي اللذين ارتجفوا بجنون قبل أن يتخشبوا في وضع الموات. التلة المنهارة ثقيلة كالجبل الذي لا يتزحزح. صدرك جثم فوقه أكداس من مرضى الفصام وصرع الهروب. تحاول أن تهرب منهم وتسحب نفسك بصعوبة من تحت تلة الأوهام. أهرب قبل أن يفيقوا.

دع أفكارك جانبا. حدث نفسك عن نفسك، أو أسأل من تكون؟ لا أحد يعرف نفسه في تلك المدينة. لم يخرج أحد من المصحة. حبال النجاة معلقة في الأسقف وعلى النواصي. من يلحق بحبل يلفه ويسقط. هل عدت لتبحث عن حبك القديم؟ تلك الفتاة الرشيقة التي رشقت رأسك بأول حائط للواقع مررتم بجواره. لقد كانت سريعة وماهرة. كم من القصص فقدت، فلا أنت أولهم ولا أخرهم.

عندما تطأ الحي القديم، ستدق امرأة رأسك بالمطرقة. أمسك برأسك وأصرخ. قطع قميصك ومزق صدرك ولكنها لن ترحمك. ستعالجك بالثانية. أدمي على الرصيف ودق على الأبواب. سترد من خلف الأبواب استغاثت مضادة. الأبواب موصدة على الأوجاع والنوافذ سكنتها عناكب الاكتئاب. المطرقة تريد اللحاق برأسك والأبواب لا تنفرج. حاول أن تهرب ولكنك لن تهرب. في قلب الحي الذي نشأت به ولعبت في حواريه، تهبط المطرقة الظالمة. الأن تذكر كل من صاحبك في تلك الطرقات. أنت تعرف بأمر السلاسل. في كل بيت طرقت على بابه، تعرف أن هناك سلسلة، وفي كل سلسة هناك أحلام مربوطة. تلك الربطة البشرية أحتار فيها سحر الجان. تلك الحكايات كنت تعرفها. تعرف من قيد من. أجيال ربطت بسلاسل أجيال سابقة. يعلو الصراخ ويتكسر زجاج النوافذ وتهوى المطرقة على رأسك لثالث مرة. تصرخ وتصرخ وتشعر بالدم يسيل على وجهك. تمسح وجهك ولكنك لا ترى الدماء. لا توجد امرأة ولا مطرقة. لا تخدع نفسك. أنت فقط في المدينة وفي هذه المدينة لا ينجو أحد.