وقفت وأشارت هناك نحو البعيد وقالت “هل ستمضى نحو هناك؟” فبقيت مكاني أطالع الطريق وكأنه كان يسير وحده دون أن ينتظرني.
كان كل شئ معروف قبل أن أقابلها، هو أنا وهذه حياتي وتلك هى حجرة صغيرة لتأملاتي، وهذا الردايو فى الركن يعيد على مسامعي كل ليلة تلك الموسيقى التى تشبهني، وذلك البراد يفور كل مساء بشاي التذكر والشرود، وتلك النافذة ذات الحواف الصدئة تطل علي عندما أطل منها وأرى شخص عائدا فى ليل الشارع الضبابي وعندما يقترب أجده أنا. كل شئ كان فى مكانه حتى عندما يراوغنى فى الأحلام ويحاول أن يخدعني ويتخفى مني فى صور مختلفة.
هذا الصباح أعتدته مهما تغير رقمه فى النتيجة وذلك الممر الضيق هو طريقي الصباحي نحو المقهى، وهنا يقف عجوز أصم ينتظر عملاتي المعدنية لترن فى جيب جلبابه الأبيض، تلك هى نقرات أصابعي على حافة الطاولة تعبر عن قلقى الصباحي، وهنا على الكرسى المجاور نفس الشخص الذى أتحاشاه كل يوم ويتحدث إلى ولا أراه، تلك هى الجريدة المطوية التى أشتريها كل يوم ولا أقرأها.
كان كل شئ يعرفنى وأعرفه وكأنه زمن كتبته قبل أن أعيشه ورسمت أحداثه، كل شئ هو وقع حياة ألفتها فأصبحت تسير معى أينما ذهبت وأن شردت منها لفترة ثم عدت، كنت أجدها كما هى دون أن تتغير. كل الأشياء كانت فى مكانها دوما والأحداث كانت تحدث دونما أن تسألني أى أسئلة. كانت الطرقات تعلمني بعلامات فكل طريق كان يسير بي دون أن أدرى وحتى ظلي كان يسير أمامي ولا يتبعني.
كل شئ كان فى مكانه حتى ظهرت ذات يوم وقالت “أنتظرني”. لم أعرف ماذا قصدت؟ وكم سيطول الإنتظار؟ وبقيت أيام وشهور أنتظر دون أن أعرف سبب. من يومها تغيرت كل الأشياء التى أعرفها فلم يعد هناك شئ واحد فى حياتي يذكرني وكأنني دخيل على ذاتي التى عشت معها كل يوم طيلة عمري.
كل يوم أصحو كالغريب الذى ينتظر الرحلة التى ستعود به إلى الديار، كل يوم أمضى ولا أعود وأنتظر ما كان مني ولم يعد موجود. كل شئ كان لدي صار بعيدا عني وتفصل بيني وبينه مسافات طوال كانت هي تسكنها ومضيت أنتظر حتى مل مني الإنتظار.
بدا كل شئ من حولي وكأنها كانت فيه من قبل أن أقابلها ومن قبل أن أكون موجود، بدا كل شئ وكأنه ناقص من دونها وبقيت وحدي أجوب الطرقات وأطالع دقات الساعات وكلما حسبت الوقت وجدته معاد. وذات يوم مرت بي مصادفة فطالعتها منتظرا مصيري. أشارت هناك نحو البعيد وقالت “هل ستمضى نحو هناك؟” فبقيت مكاني أطالع الطريق وكأنه كان يسير وحده دون أن ينتظرني.
كان كل شئ قدر محتوم ينتظر الحدوث والأشياء التى نعرفها كلها والعادات التى نكتسبها ما هي إلا أماكن فى ذاكرة مسافر يمضى من حال إلى حال، كل ما يعرفه سيعود غريبا كما كان.
ياسر أحمد